الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال أبو السعود: {وَإِنْ أَحَدٌ} شروعٌ في بيان حكم المتصدِّين لمبادي التوبة من سماع كلامِ الله تعالى والوقوفِ على شعائر الدين إثرَ بيانِ حُكمِ التائبين عن الكفر والمُصِرِّين عليه وهو مرتفعٌ بشرط مضمرٍ يفسِّره الظاهرُ لا بالابتداء لأن إنْ لا تدخل إلا على الفعل {مّنَ المشركين استجارك} بعد انقضاءِ الأجل المضروبِ أي سألك أن تُؤَمِّنه وتكونَ له جارًا {فَأَجِرْهُ} أي أمنه: {حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله} ويتدبرَه ويطّلع على حقيقة ما يدعو إليه. والاقتصارُ على ذكر السماعِ لعدم الحاجةِ إلى شيء آخرَ في الفهم لكونهم من أهل اللسَنِ والفصاحةِ، و(حتى) سواءٌ كانت للغاية أو للتعليل متعلقةٌ بما بعدها لا بقوله تعالى: {استجارك} لأنه يؤدّي إلى إعمال حتى في المضمر وذلك مما لا يكاد يرتكب في غير ضرورةِ الشعر كما في قوله:كذا قيل إلا أن تعلّق الإجارةِ بسماع كلامِ الله تعالى بأحد الوجهين يستلزمُ تعلقَ الاستجارةِ أيضًا بذلك أو بما في معناه من أمور الدينِ، وما رُوي عن عليَ رضي الله عنه أنه أتاه رجلٌ من المشركين فقال: إن أراد الرجلُ منا أن يأتي محمدًا بعد انقضاء هذا الأجلِ لسماع كلامِ الله تعالى أو لحاجة قتل؟ قال: لا لأن الله تعالى يقول: {وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ} إلخ فالمرادُ بما فيه من الحاجة هي الحاجةُ المتعلقةُ بالدين لا ما يعمها وغيرَها من الحاجات الدنيوية كما ينبئ عنه قوله: أن يأتي محمدًا، فإن من يأتيه عليه السلام إنما يأتيه للأمور المتعلقةِ بالدين {ثُمَّ أَبْلِغْهُ} بعد استماعِه له إن لم يؤمِنْ {مَأْمَنَهُ} أي مسكنَه الذي يأمَن فيه وهو دارُ قومِه {ذلك} يعنى الأمرَ بالإجارة وإبلاغِ المأمن {بِأَنَّهُمْ} بسبب أنهم {قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} ما الإسلامُ وما حقيقتُه، أو قومٌ جَهَلةٌ فلابد من إعطاء الأمانِ حتى يفهموا الحقَّ ولا يبقى لهم معذرة أصلًا. اهـ. .قال الألوسي: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}{وَإِنْ أَحَدٌ} شروع في بيان حكم المتصدين لمباي التوبة من سماع كلام الله تعالى والوقوف على شعائر الدين اثر بيان حكم التائبين عن الكفر والمصرين عليه، وفيه إزاحة ما عسى يتوهم من قوله سبحانه: {فَإِذَا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] إذ الحجة قد قامت عليهم وأن ما ذكره عليه الصلاة والسلام قبل من الدلائل والبينات كاف في إزالة عذرهم بطلبهم للدليل لا يلتفت إليه بعد و{إن} شرطية والاسم مرفوع بشرط مضمر يفسره الظاهر لا بالابتداء ومن زعم ذلك فقد أخطأ كما قال الزجاج لأن إن لكونها تعمل العمل المختص بالفعل لفظًا أو محلا مختصة به فلا يصح دخولها على الأسماء أن وإن استجارك أحد {مّنَ المشركين استجارك} أي استأمنك وطلب مجاورتك بعد انقضاء الأجل المضروب {فَأَجِرْهُ} أي فآمنه: {حتى يَسْمَعَ كلام الله} ويتدبره ويطلع على حقيقة ما تدعو إليه والاقتصار على ذكر السماع لعدم الحاجة إلى شيء آخر في الفهم لكونهم من أهل اللسن والفصاحة، والمراد بكلام الله تعالى الآيات المشتملة على ما يدل على التوحيد ونفي الشبه والشبيه، وقيل: سورة براءة، وقيل: جميع القرآن لأن تمام الدلائل والبينات فيه، و{حتى} للتعليل متعلقة بما عندها، وليست الآية من التنازع على ما صرح به الفاضل ابن العادل حيث قال: ولا يجوز ذلك عند الجمهور لأمر لفظي صناعي لأنا لو جعلناها من ذلك الباب واعلمنا الأول أعني استجارك لزم إثبات الممتنع عندهم وهو إعمال حتى في الضمير فانهم قالوا: لا يرتكب ذلك إلا في الضرورة كما في قوله:ضرورة أن القائلين بأعمال الثاني يجوزن إعمال الأول المستدعى لما ذكر سيما على مذهب الكوفيين المبني على رجحان إعماله ومن جوز إعماله في الضمير يصح ذلك عنده لعدم المحذور حينئذ، ويفهم ظاهر كلام بعض الأفاضل جواز التعلق باستجارك حيث قال: لا داعي لتعلقه بأجره سوى الظن أنه يلزم أن يكون التقدير على تقدير التعلق بالأول وإن أحد من المشركين استجارك حتى يسمع كلام الله فأجره حتاه أي حتى السمع وهل يقول عاقل بتوقف تمام قولك إن استأمنك زيد لأمر كذا فآمنه على أن تقول لذلك الأمر كلا فرضنا الاحتياج ولزوم التقدير ولكن ما الموجب لتقدير حتاه الممتنع في غير الضرورة ولم لا يجوز أن يقدر لذلك أوله أو حتى يسمعه أو غير ذلك مما في معناه، وقال آخر: إن لزوم الإضمار الممتنع على تقدير إعمال الأول لا يعين إعمال الثاني فلا يخرج التركيب من باب التنازع بل يعدل حينئد إلى الحذف فإن تعذر أيضًا ذكر مظهرًا كما يستفاد من كلام نجم الأئمة وغيره من المحققين.وقد يقال: إن المانع من كونه من باب التنازع انه ليس المقصود تعليل الاستجارة بما ذكر كما أن المقصود تعليل الاجارة به.نعم قال شيخ الاسلام ان تعق الإجارة بسماع كلام الله تعالى يستلزم تعلق الاستجارة أيضًا بذلك أو ما في معناه من أمور الدين، وما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه انه أتاه رجل من المشركين فقال: إن أراد الرجل منا أن يأتي محمدًا صلى الله عليه وسلم بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله تعالى أو لحاجة قتل قال: لا.لأن الله تعالى يقول: و{إن أَحَدٌ مّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ} إلخ فالمراد بما فيه من الحاجة هي الحاجة المتعلقة بالدين لا ما يعمها وغيرها من الحاجات الدنيوية كما ينبئ عنه قوله أن يأتي محمدًا صلى الله عليه وسلم فإن من يأتيه عليه الصلاة والسلام إنما يأتيه للأمور المتعلقة بالدين انتهى، لكنه ليس بشيء لأن الظاهر من كلام ذلك القائل العموم فيكون جواب الأمير كرم الله تعالى وجهه مؤيدًا لما قلناه.ويرد على قوله قدس سره أن يأتيه عليه الصلاة والسلام انما يأتيه للأمور المتعلقة بالدين منع ظاهر فلا يتم بناء الانباء، وجوز غير واحد كون حتى للغاية والخبر المذكور وجزالة المعنى يشهدان بكونها للتعليل بل قال المولى سرى الدين المصري: إن جعلها للغاية يأباه قوله تعالى: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ} بعد سماعه وكلام الله تعالى إن لم يؤمن {مَأْمَنَهُ} أي مسكنه الذي يأمن فيه أوموضع أمنه وهو ديار قومه على أن المأمن اسم مكان أو مصدر بتقدير مضاف والأول أولى لسلامته من مؤنة التقدير، والجملة الشرطية على ما بينه في الكشف عطف على قوله سبحانه: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] ولا حجة في الآية للمعتزلة على نفي الكلام النفي لأن السماع قد ينسب إليه باعتبار الدال عليه أو يقال: إن الكلام معقول بالاشتراك أو بالحقيقة والمجاز على الكلام النفسي والكلام اللفظي ولا يلزم من تعين أحدهما في مقام نفي ثبوت الآثر في نفس الأمر، وقد تقدم في المقدمات من الكلام ما يتعلق بهذا المقام فتذكر {ذلك} أي الأمن أو الأمر {بِأَنَّهُمْ} أي بسبب أنهم {قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} ما الإسلام وما حقيقة ما تدعوهم إليه أو قوم جهلة فلابد من إعطاء الأمان حتى يفهموا ذلك ولا يبقى لهم معذرة أصلًا، والآية كما قال الحسن محكمة.وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن أبي عروبة أنها منسوخة بقوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً كَمَا يقاتلونكم كَافَّةً} [التوبة: 36] وروى ذلك عن السدي.والضحاك أيضًا وما قاله الحسن أحسن، واختلف في مقدار مدة الإمهال فقيل: أربعة أشهر وذكر النيسابوري أنه الصحيح من مذهب الشافعي، وقيل: مفوض إلى رأي الإمام ولعله الأشبه. اهـ. .قال القاسمي: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} أي: وإن استجارك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم، أي: استأمنك بعد انقضاء أشهر العهد، فأجبه إلى طلبته حتى يسمع كلام الله، أي: القرآن الذي تقرؤه عليه، ويتدبره، ويطلع على حقيقة الأمر، وتقوم عليه حجة الله به، فإن أسلم ثبت له ما للمسلمين، وإن أبى فإنه يردّ إلى مأمنه، وداره التي يأمن فيها، ثم قاتله إن شئت.وقوله تعالى: {ذَلِكَ} يعني الأمر بالإجارة وإبلاغ المأمن، بسبب أنهم قوم لا يعلمون، أي: جهلة، فلابد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق، ولا يبقى لهم معذرة.تنبيهات:الأول: دلت الآية على أن المستأمن لا يؤذى، وأنه يمكّن من العود من غير غدر به ولا خيانة، ولذا ورد في الترهيب من عدم الوفاء بالعهد والغدر ما يزجر أشد الزجر.فروى البخاري في تاريخه والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أمّن رجلًا على دمه فقتله، فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافرًا».وروى أحمد والشيخان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة».قال ابن كثير: من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام، في أداء رسالة أو تجارة، أو طلب صلح أو مهادنة، أو حمل جزية، أو نحو ذلك من الأسباب، وطلب من الإمام أو نائبه أمانًا أعطي، ما دام مترددًا في دار الإسلام، إلى أن يرجع إلى مأمنه ووطنه.قال الحاكم: وإنما يجار ويؤمّن إذا لم يعلم أنه يطلب الخداع والمكر، لأنه تعالى علل لزوم الإجارة بقوله: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ}.الثاني: قال الحاكم: تدل الآية على أنه يجوز للكافر دخول المسجد لسماع كلام الله.الثالث: استدل بهذه الآية من ذهب إلى كلام الله بحرف وصوت قديمين، وهم الحنابلة، ومن وافقهم كالعضد.قالوا: لأن منطوق الآية يدل على أن كلام الله يسمعه الكافر والمؤمن والزنديق والصديق، والذي يسمعه جمهور الخلق ليس إلا هذه الحروف والأصوات.فدل ذلك على أن كلام الله ليس هذه الحروف والأصوات، والقول بأن كلام الله شيء مغاير لها باطل، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يشير بقوله كلام الله إلا لها، وقد اعترف الرازي بقوة هذا، لإلزام من خالف فيه، وقد مضى لنا في قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} في آخر سورة النساء، فارجع إليه.الرابع: قال الرازي: دلت الآية على أن التقليد غير كاف في الدين، وأنه لابد من النظر والإستدلال، وذلك لأنه لو كان التقليد كافيًا، لوجب أن لا يمهل هذا الكافر، بل يقال له: إما أن تؤمن، وإما أن نقتلك، فلما لم يُقل له ذلك، بل أمهل وأزيل الخوف عنه، ووجب تبليغه مأمنه، علم أن ذلك لأجل عدم كفاية التقليد في الدين، وأنه لابد من الحجة والدليل، فلذا أمهل ليحصل لها النظر والاستدلال. اهـ..قال ابن عاشور: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}عطف على جملة: {فإن تابوا} [التوبة: 5] لتفصيل مفهوم الشرط، أو عطف على جملة {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] لتخصيص عمومه، أي إلاّ مشركًا استجارك لمصلحة للسِفارة عن قومه أو لمعرفة شرائع الإسلام.وصيغ الكلام بطريقة الشرط لتأكيد حكم الجواب، وللإشارة إلى أنّ الشأن أن تقع الرغبة في الجوار من جانب المشركين.وجيء بحرف {إنْ} التي شأنها أن يكون شرطها نادر الوقوع للتنبيه على أنّ هذا شرط فَرْضيّ؛ لكيلا يزعم المشركون أنّهم لم يتمكّنوا من لقاء النبي صلى الله عليه وسلم فيتّخذوه عذرًا للاستمرار على الشرك إذا غزاهم المسلمون.ووقع في تفسير الفخر أنّه نقل عن ابن عبّاس قال: إنّ رجلًا من المشركين قال لعلي بن أبي طالب: أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله أو لحاجة أخرى فهل نُقتل.فقال علي: لاَ إنّ الله تعالى قال: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره}.أي فأمنه حتّى يسمع كلام الله، وهذا لا يعارض ما رأيناه من أنّ الشرط في قوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك} الخ، شرط فرضي فإنّه يقتضي أنّ مقالة هذا الرجل وقعت بعد نزول الآية على أنّ هذا المروي لم أقف عليه.وجيء بلفظ أحد من المشركين دون لفظ مشرك للتنصيص على عموم الجنس، لأنّ النكرة في سياق الشرط مثلها في سياق النفي إذا لم تُبنَ على الفتح احتملت إرادة عموم الجنس واحتملت بعض الأفراد، فكان ذكر {أحد} في سياق الشرط تنصيصًا على العموم بمنزلة البناء على الفتح في سياق النفي بلا.و{أحد} أصله واحد لأنّ همزته بدل من الواو ويستعمل بمعنى الجزئي من الناس لأنّه واحد، كما استعمل له فَرد في اصطلاح العلوم، فمعنى {أحد من المشركين} مشرك.وتقديم {أحد} على {استجارك} للاهتمام بالمسند إليه، ليكون أول ما يقرع السمع فيقع المسند بعد ذلك من نفس السامع موقع التمكن.وساغ الابتداء بالنكرة لأنّ المراد النوع، أو لأنّ الشرط بمنزلة النفي في إفادة العموم، ولا مانع من دخول حرف الشرط على المبتدأ، لأن وقوع الخبر فعلًا مقنع لحرف الشرط في اقتضائه الجملة الفعلية، فيعلم أنّ الفاعل مقدّم من تأخير لغرض مّا.
|